أحمد مدلج... ظِلّ زياد وكاتم أسراره
الرئيسية مقالات / Ecco Watan
الكاتب : محرر الصفحة
Jul 31 25|10:55AM :نشر بتاريخ
كتب علي عوّاد عبر حسابه على منصة "فيسبوك":
أمامنا مشهد لا يشبه أي وداع. يجلس أحمد مدلج، كما اعتاد دائماً، قريباً من زياد الرحباني، حتى في لحظة الفراق الأخيرة. وجهه صلب، ملامحه هادئة ولكنها مثقلة. لا دموع ولا انكسار. الرجل الذي أمضى عمره يحمي زياد من صخب العالم، يجلس هنا إلى جانب النعش، يرافقه في رحلته الأخيرة، كما رافقه في الحياة. لا نظرات مسروقة ولا كلمات زائدة. فقط حضور ثقيل. لا أحد يجرؤ على الاقتراب من المسافة بينهما. حتى الموت نفسه بدا عاجزاً عن اقتلاع هذه الرفقة من مقعدها. هذه صورة الرفيق الحقيقي.
للناس حق أن يعرفوا من يكون هذا الرجل الذي ظلّ إلى جانب زياد حتى الرمق الأخير. حاولنا الاتصال به، عزّيناه، ولكنه رفض أن ينطق بحرف: «ولا كلمة». كل ما في وسعنا أن نقدمه هنا هو خلاصة ما عرفناه عنه، وما أسرّ به من أحبوه.
أحمد مدلج، ابن كفررمان (جنوب لبنان)، رجل لا يشبه سوى نفسه. حمل منذ طفولته سحنة الزيتون وملامح الصلابة.
شيوعي عتيق، حمل لواء المقاومة باكراً، وبدأ سيرته موظفاً في إذاعة «صوت الشعب»، قبل أن يدخل حياة زياد الرحباني ويصير ظلّه الأمين.
يراه من يعرفه كتوماً، مسافته محسوبة، لا يتكلم كثيراً، لا يروي القصص ولا يوزع الأسرار.
يقول أحد المقربين منه إنه يعتبر الحديث عن زياد أمام أي شخص خيانةً حقيقية، لا يقترفها مهما كانت الظروف. ثلاثون عاماً وأكثر لم يفصح خلالها بكلمة واحدة عن خصوصيات زياد أو يومياته.
لا أحد يكتسب ثقته بسهولة، فقد عُرف عنه الحذر وحدّة الملاحظة والقدرة على الصمت الطويل من دون أن يتسلل إلى أعماقه ملل أو تبرم.
حين تلتقونه، تظنونه للتو أنّه أنهى قطاف الزيتون. في صوته دوماً ثقة ممزوجة بالتبغ، وفي تعابيره مسحة ودّ جنوبي أصيل.
لا ينغمس في العواطف الظاهرة، ولكنه يملك إنسانية لا حدود لها. لا يرد خدمة، لا يطلب شيئاً، ولا يبادل المصالح مع أحد.
لم يسعَ مدلج يوماً إلى استغلال قربه من زياد أو تحويل معرفته به إلى وسيلة لنسج العلاقات أو جني المكاسب. التزم خط الوفاء المطلق، ومارس مهمته مع زياد بتواضع حقيقي، من دون أن يفرض نفسه على أحد أو أن يسمح لأحد بالاقتراب من عالم زياد أكثر مما يسمح به هو نفسه.
يبدأ نهاره في الثامنة صباحاً ولا ينتهي إلا عندما ينتهي نهار زياد، حتى لو طال ذلك إلى الفجر. ظل سنوات طويلة يخفي عن زوجته وأبنائه الثلاثة ومحيطه أنه يعمل مع زياد، حتى إنّ أبناءه لم يتعرفوا إلى زياد شخصياً. مع ذلك، بقي زياد يسأل عنه وعن عائلته، وتقاسما معاً كل تفاصيل الحياة، حتى لقمة الطعام.
كان وجود مدلج في أي مكان يستدعي طيف زياد في الخلفية. حديثه لا يدور عن زياد إلا إذا كان في إطار العمل، ولمن يعرف أن يلتقط الإشارات. يختار كلماته بدقة، ويكتفي أحياناً بإيماءة أو نظرة تغني عن الشرح، فلا يدرك المعنى إلا من اعتادَ لغته الخاصة. يؤدي أدواره كلها في الظل: مرافق، مدير مكتب، سائق، حامٍ، جندي مجهول.
اشتهر أحمد مدلج بصرامته في القوانين، واهتمامه اليومي بالآلات الموسيقية والموسيقيين. لا يرتاح بعد أي حفلة حتى يتأكد بأنّ الآلات عادت إلى الاستديو سالمة.
كان أيضاً المسؤول عن مصالحة كل من أراد التواصل مع زياد، إذ يمر الجميع عبرَه. يعرف بالأمن، ويحب القراءة، وصحيفته وقهوته هما طقسه الصباحي الدائم.
ليس فضولياً، ولكنه يرصد كل تفصيل، وينبّه زياد بطريقته إذا شعر أنّ هناك من يستغله أو يحاول الاستفادة منه. لم يغب عن عمله إلا نادراً، حتى في أشد حالات المرض.
ينتهي دوره في لحظة واحدة، حين يعزف زياد، ليعود في الاستراحة ويطمئن على كل شيء.
كان زياد يقلّد مدلج أحياناً في بعض الحركات الصغيرة، كأنّ الرجلين حفظا بعضهما البعض عبر السنين الطويلة.
فهم مدلج باكراً من هو زياد. رافق الأسطورة على طريقته الخاصة، وأحاطها بحزام أمان، من دون أن يتطفل أو يدّعي دوراً لم يُطلب منه.
كان يعرف أن بقاء زياد متماسكاً وسط العواصف يحتاج إلى ظلّ لا ينافس الضوء، ويد تعرف متى تتدخل ومتى تنسحب. هو من شهد المعجزة من قرب، فآمن بالقديس إلى النهاية، واختار له ثياب الوداع.
انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا