سيلفي المجزرة ...مقاطع فيديو

الرئيسية مقالات / Ecco Watan

الكاتب : محرر الصفحة
Jul 23 25|16:00PM :نشر بتاريخ

 كتب راشد عيسى في القدس العربي :

لو كنتُ مقاتلاً ومعي بارودة أسلّطها فوق رأس رجل عجوز،

وأقول له بفظاظة: من أين أنت، فيجيبني بكل مَسكنة: مِن هنا.. من السويداء.
لو كنتُ ذلك المقاتل، ويركع تحت سبطانتي ذلك الرجل الدرزي ضئيل الحجم، منكمشاً كما لو أنه يحلم بالاختفاء تحت وقع أسئلتي الغامضة، ذات اللكنة البعيدة: لماذا شارباك مثل المقشة؟ أين عيالك؟ هل مرّ رجالنا إلى دارك أمس (أي: لماذا ما زلت حياً! لماذا لم يقتلوك!)،

البلاد ولّادة، حبلى بالرموز، مهووسة بالأيقونات، لقد أنجبتْ للتو مقصاً هائل الحجم، هائل الرمزية، للشوارب، وللألسنة

ثم آمُرُه بأنْ يتحرك أمامي، ليقودني إلى بيته،

لو كنتُ كلَّ ذلك، فيما الرجل العجوز، مريض القلب، الذي بلا حَيْل ولا حيلة يقول لي ممتثلاً، مكسوراً: يلّا يا جِدّي،

لأطلقت النار على الفور، وبلا رحمة،

على رأسي أنا.

رائحة الحبق
عندما أُخرِج الشبان الثلاثة إلى الشرفة، بأكتافهم المحنية، وقاماتهم المذعورة، بدت في الواجهة أصص النباتات، تذكرتُ شتلات أمي الأثيرة في كل ربيع؛ الحبق، أزهار فم السمكة، النعناع، الدالية،.. استُمهل الشبان قليلاً (ظَهَرَ تالياً أنهم طبيبان ومهندس) لأن أحد القتلة رَفَعَ جواله ليصوّر، ثم أُعطيتْ الأوامر من جديد كي يلقوا بأنفسهم من الشرفة تحت تهديد البنادق، لم يُبدِ الشبان أي مقاومة، حتى أنهم لم يتلفّتوا خلفهم، لا بد أن لديهم أملاً بالنجاة من السقوط أكثر من العشم برحمة من هؤلاء. قفزوا، واحداً إثر آخر، وأُطلقتْ في الأثناء الطلقات باتجاههم، ثم خرج القاتلون، وبدا كم أنه عمل عادي لهم، كما لو أنهم هم أنفسهم من أطلق النار على شفا حفرة مجزرة التضامن، بدا الفيديو وكأنه الحلقة رقم 2 من مجزرة التضامن. المجزرة التي تركت حفرة هائلة في مخيلات السوريين، حفرة أثبتت الأيام أن ليس من السهل ردمها، كما لو أنها عينُ إنسان فارغة.

لقد قيل لنا دائماً: احذر الوحش وأنتَ تصارعه، لئلا تصبح وحشاً مثله، وها نحن نتفوق على الوحش.
بالمناسبة؛ هل فاحت روائح الحبق والنعناع التي هزّها مرورُ أجساد الشبان الثلاثة؟ هل شممتَ؟ هل تذكرتَ حبقات أمك؟

كنز تعارة
عندما مرّ الرجال بقرية تعارة، غربي السويداء، أحرقوا بيوتاً فيها. في تلك القرية هنالك بيت خرجت منه «جهات الجنوب»، «نساء الخيال»، «قصر المطر»، «معراج الموت»، «أرض الكلام»، «أرواح صخرات العسل»، كُتب، روايات ستكون خبزَ عقودٍ لأجيال من سوريين قادمين. بالمصادفة لم يكن صاحب البيت، صاحب الكتب، ممدوح عزام في داره أثناء هبوب الحرائق على ضيعته، لكنه تألم على بعد آلاف الأميال: «قريتي تعارة، وبيتي، تحت الاحتلال. لا اسم آخر لمهاجمين يحرقون القرى والبيوت في السويداء غير هذا الاسم».
طوال عقد ونصف بقي روائيُّ اللجاة في قريته، يكتب، ويزرع ورداً فوق البازلت. الجميع يعرفون أنه صوتٌ لم يهادن النظام، كما لم يهادن طائفته قبل ذلك.

السويداء لا تقتصر على كنز تعارة وحده.. لم تكفّ المدينة عن منح السوريين بعضاً من كرمها، خبزاً ساخناً، عنباً، وهتافات ولا أنبل

من البيت نفسه، خرج شاب (الفنان التشكيلي تمام عزام) أحد أبرز الأصوات تمثيلاً لثورة السوريين، والمُواكِب لها منذ ولادتها، من دون انقطاع، لوحات ومعارض ومقابلات.
لم يجر تزويد مشعلي الحرائق في البلدة بخرائط تشير إلى ما تحوي من كنوز.
والسويداء لا تقتصر على كنز تعارة وحده، فمنذ الثورة السورية الكبرى، حتى مظاهرات ساحة الكرامة لم تكفّ المدينة عن منح السوريين بعضاً من كرمها، خبزاً ساخناً، عنباً، وهتافات ولا أنبل.

أيقونة المقصات
حفل عواء مخصص لكبار السن، عواء على وقع المقصات والشتائم. جَهَّزَ الجيشُ المقصات قبل البنادق، والسكاكين وعيدان الثقاب قبل قذائف الآر بي جي، لكل مقام مقال، هذه «عدة الإذلال»، وهذه للانتقام. لكن لماذا! وممّن؟
الانتقام في الحرب، على فظاعته، قد يصبح مفهوماً، العماء والحقد والثأر مفهوم، لكن كيف نفسّر قصدية الإذلال!
يعرف مرتكبو المجزرة طريقهم جيداً، المقصات التي تزوّدوا بها سلفاً هي الدليل. من فرط ما يقصدون تحولت المقصات إلى رمز، تظهر مجموعة من المتوعدين في فيديو وترفع مقصاً هائل الحجم، كما لو أنه هوية بصرية لها. البلاد ولّادة، حبلى بالرموز، مهووسة بالأيقونات، لقد أنجبتْ للتو مقصاً هائل الحجم، هائل الرمزية، للشوارب، للألسنة، على ما قال أحد المقاتلين الذي لم يعجبه تململ الرجل المسنّ ذي الشاربين تحت مقصه. تلك هي مقصاتنا، اليوم هنا، وغداً هناك، ولنا فيها مآرب أخرى.

«أني رايح جيب خبز»
يصطدم القتلة بعجوز في الطريق، كان يرتدي ملابس تقليدية؛ كوفية بيضاء، شروالاً أسود، وبدا من بعيد نحيلاً، مذعوراً، ويكاد يلتصق بالحائط.

يبصق المقاتلُ سؤالَه: درزي !
يتجاهل العجوز الدرزي ما اللهُ مُبديهِ. يسارع، يتخطى الجوابَ القاتلَ إلى جواب لا يكتمل، ظنَّ أنه سينجيه: «أني رايح جيب خبز».
سَبَقَ الرصاصُ الخبز. حتى أن مقاتلاً زميلاً كاد يغشى من الضحك فوق الجثة؛ يا رجل دعه يكمل جوابه! يقهقه المقاتلُ الزميل، ويقهقه القاتلُ، فيما دم الدرزي يسيل على الرصيف.
ضَحِكٌ، وقَتْلٌ سهل يشي بكم قتل هؤلاء على الطريق حتى بات الأمر سهلاً على ضمائرهم إلى هذا الحد.

لقد قيل لنا دائماً: احذر الوحش وأنت تصارعه، لئلا تصبح وحشاً مثله.. وها نحن نتفوق على الوحش

أراد العجوز الدرزي أن يقول إنه ذاهب من أجل لقمة خبز لأولاد لم يذوقوا الخبز منذ أسبوع، وإن الجوع غَلَبَ الخوف، وإنه خرج امتثالاً لشاشة التلفزيون الرسمي التي قالت إن الأحوال آمنة، وإن الدولة هي الملاذ.

دم السوري
على عتبة البرلمان اجتمع ثلة من معتنقي رفض القتل. مظاهرة فقيرة لا يتعدى أفرادها العشرات، مع «كراتين» فقيرة كُتبت عليها عبارات بخط اليد، عنوانها العريض: «دم السوري على السوري حرام».
لم يُتْرَك هؤلاء بحالهم، أُرْسِل إليهم من يبدد شملهم. ما الذي يزعجكم في قول «دم السوري على السوري حرام»!
الفيديو الأشهر (والكاميرا، بالمناسبة، غالباً ما تكون من زاوية القتلة، ما يعني أن لا خوف من الحساب)، الفيديو الأشهر بين فيديوهات اعتصام البرلمان كان لصوت رجل يلاحق فتاة. استفردَ بها، وَصَفَها بكلمة بذيئة، وطلب (من عصابته على ما يبدو) عصا، لأنه لا يريد تلطيخ يده بامرأة.
الشابة اسمها زينة شهلا، معتقلة سابقة في سجون النظام، شابَ شَعرُها دفعةً واحدة في الأقبية وهي في عزّ الصبا. وفوق ذلك هي مستشارة في لجنة المفقودين التابعة لرئاسة الجمهورية.
مرتكبو المجزرة إذن لن يتوقفوا عند العلوي، ولا الدرزي، أو المسيحي، أولئك الرجيمون، الخنازير،.. فكلُّ آخَر مختلفٌ بالنسبة لهم يستحق مقصاً، عصا، أو طلقة في الرأس.

انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا


المصدر : القدس العربي