زياد الرحباني: جدلية الفن المتمرّد والأوطان المهزومة

الرئيسية مقالات / Ecco Watan

الكاتب : محرر الصفحة
Jul 27 25|10:16AM :نشر بتاريخ

كتب نادر حجاز في مجلة ميغازين: 

"مش ضروري النهايات تكون سعيدة على طول، خيي إنت منّك عايش بفيلم"... طوى المشاغب الساخر آخر صفحات حياته ورحل، عبثي هو حتى في غيابه وموعد رحيله "بلا ولا شي".

اختار التمرّد سِمة دائمة لشخصيته فنانًا وإنسانًا أيضًا، فالطفل الذي وُلد في منزل عمالقة المسرح اللبناني، فيروز والأخوين الرحباني، لم يصدّق أبطال أهله الافتراضيين، فالواقع لا يشبه "عرزال الضيعة" و"المختار" و"أغاني الصبايا" و"جبال العزّ". الشاب الذي كبر على صوت المدفع والمتاريس و"القتل عالهوية"، عرف أن الوهم هو أول الامراض التي تضرب الشعوب والاوطان والمجتمعات، ولا بد من قول الأمور بصراحتها، لا بل وقاحتها.

روى قصة لبنان على طريقته، وبعبثيته الصادقة وتسمية الحقيقة المرّة كما هي وفضح الأوهام. ومن هنا بدأت حكاية زياد الرحباني، ناقلًا هواجس الناس ومآسيهم وأحلامهم المكسورة إلى المسرح.

صوت المقهورين

"شو هالإيام اللي وصلنالا، قال إنو غني عم يعطي فقير. كأنو المصاري قشطت لحالها عا هيدا نتفة وهيدا كثير"... لم يخفِ زياد هويته السياسية اليسارية، وحماسته للنظام الشيوعي السوفياتي، وانتصاره للعدالة الاجتماعية والأفكار الاشتراكية والمساواة بين الجميع من دون تصنيف الناس وفق ثرواتهم وما يملكون من أموال.

رافقته الإشكاليات طوال مسيرته المهنية والشخصية، في الفن كما السياسة والأيديولوجيا، والرغبة الجامحة بالتغيير الاجتماعي من بوابة المسرح والفن، حين يقول: "بيقولولك من عرق جبينه، طلّع مصاري هالإنسان. طيب كيف هيدا وكيف ملايينو وما مرة شايفينو عرقان؟".

جاهر بانتقاد الأحزاب خلال الحرب الأهلية اللبنانية ودورها في تدمير البلد وتقسيمه، كما السلطة في زمن السلم إذ قام بمواجهتها علانية في مقالات وتصريحات، منحازًا بالكامل للمهمشين والفئات الاجتماعية المقهورة والمعدومة، ساخرًا من النظام الطائفي، معلناً طواعية مغادرة "زمن الطائفية".

فضح مراوغة أهل السياسة، حين كشف "تلفون عيّاش الكذاب"، وكم من "عيّاش كذّاب وفشّاط" في يومياتنا؟

خلف المتراس

عبر زياد الرحباني باكرًا إلى الضفة الأخرى، فابن انطلياس المتنيّة (نسبة إلى قضاء المتن بجبل لبنان) تعرفه شوارع الحمرا وبيروت الغربية جيدًا. هذا اليساري ومبدع المسرح الشعبي اللبناني تجاوز المتراس في عزّ الانقسامات والحرب الطائفية، متخطيًا أكياس الرمل ومعابر القنص، نحو وطن أعاد قراءته في "نزل السرور"، وإذ بأوطاننا ليست إلا "فيلم أميركي طويل" ما زال يتوالى فصولًا حتى يومنا هذا.

"لبنان الجديد طلع لحم بعجين"، اختصر زياد الواقع، وربما ما زال الوصف يصحّ اليوم، تمامًا كما وصاياه في "إسمع يا رضا".

مكانة فنية خاصة

لا يشبه زياد الرحباني أي مسرحي وموسيقي آخر. فهو لم يقرّ بالأعراف حتى تلك الموسيقية والفنية. كان ابنَ البيت الرحباني، لكنه لم يكن ابن المدرسة الفنية الرحبانية، بشكلها التقليدي والفولكلوري.

شرب من نبع الرحابنة وإبداعه طبعًا، ما ظهر بشكل واضح في "سألوني الناس عنّك يا حبيبي"، الأغنية الأولى التي لحّنها لوالدته السيدة فيروز في العام 1973، وكان في عمر الـ17 سنة، حينما كان والده عاصي في المستشفى، وقد لاقت نجاحًا كبيرًا.

لكنّ لون زياد الخاص سرعان ما لمع، والأعمال اللاحقة التي قدّمها لفيروز حملت طابعها الخاص وكانت علامة فارقة في مسيرتها الفنية، وخاطبا فيها جيلًا جديدًا وبكلام الناس كما هو، في "عندي ثقة فيك"، "كيفك انت"، "بعتلك"، "ضاق خلقي"، "سلملي عليه"، "حبو بعضن" وغيرها.

جمع في فنه الشرق والغرب، تمامًا كما تعلّق بـ"البزق" و"البيانو". وكان موهبة شاملة، فهو الكاتب والملحّن والموسيقي والمسرحي والمغنّي، في وصفة فنية قلّما تجتمع في شخص واحد.

اشتهر بموسيقاه الحديثة، التي أسست لمدرسة في الموسيقى العربية والمسرح العربي المعاصر، فكانت كل أعماله مزيجاً بين التقليد والحداثة، مخاطبًا أبناء جيله بلغتهم والموسيقى الأقرب الى عصرهم، ما ساعده على إيصال رسائله بسلاسة وسهولة، لا سيما تلك الناقدة للتقاليد والمجتمع والعصبيات والفساد والاقطاع السياسي.

لم يقدّم أعماله في قالب جامد، فانتقد وسخر كثيرًا وأضحك جمهوره، وحاكى الواقع اللبناني المرّ بضحكة وتلميح و"لعب على الكلام". فطبع جيلًا بأكمله بمقاطع مسرحياته، ليدخل يوميات الناس الذين يرددون من حيث لا يدرون كلماته و"نهفاته".

المسرح الساخر

"عايشة وحدها بلاك وبلا حبك يا ولد، حاجي تحكي عن هواك ضحّكت عليك البلد"... يكفي أن تسمع كلمات الأعمال المسرحية، لتعرف أن كاتبها هو زياد الرحباني.

هو الساخر دائمًا من الواقع، سأل عام 1978 "بالنسبة لبكرا شو"؟، ليعود ويروي لنا عن "فيلم أميركي طويل"، و"شي فاشل"، ومرض الطائفية في "لولو"، وبقايا وطن في "نزل السرور". ليعود ويطلّ على جمهوره بعد غياب 10 سنوات في "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" عام 1993، و"لولا فسحة الأمل" عام 1994 وغيرها.

الحرية والثورة

انتفض زياد الرحباني في كل أعماله الفنية على المتحكّمين بمصائر الناس، حرّض على الحرية، وعلى الكرامة وحق المظلومين والفقراء بالحياة الكريمة، ودفاعًا عن هؤلاء قال: "رح قلّك للدغري أحوالي ما بتغري، ورّثوني المكنسة وطلعت زبّال"، و"مش همّ بعد اليوم إن بهدلني حدا. صارت حياتي كلها شي بهدلة".

هاجم مَن يدّعون وكالة من الله على الأرض، والمتسلّطين باسم الدين وباسم الخوف والقلق الدائم.

لكن زياد كان جدليًّا في فنّه كما في مواقفه السياسية. وواجه انتقادات كثيرة بعد تصريحاته وكتاباته المعارضة لكل الثورات العربية، ومن بينها الثورة السورية، رغم أنه كان معارضًا شرسًا لدخول الجيش السوري إلى لبنان أواخر السبعينات، وانقطع عن زيارة سوريا من الثمانينات حتى العام 2009، ولم يكن قبل ذلك من المفكرين المنظّرين للنظام السوري السابق.

لم يدعم الربيع العربي، متسائلًا عما إذا كان هذا ما تطمح إليه الشعوب العربية، ما عرّضه في العام 2013 لحملة مقاطعة للحفلة التي أحياها في مهرجان القاهرة للجاز.

يبدو الأمر مثيرًا للجدل، لكنه لم يكن على الحياد ولم يُخفِ حقيقة موقفه رغم ما تعرّض له من انتقادات في العقدين الماضيين. فهو كان مع أي عمل مقاوم ضد إسرائيل، ورغم الانقسام السياسي اللبناني الكبير آنذاك بين فريقي 8 و14 أذار، لم يتردّد بحضور "مهرجان الانتصار" الذي أقامه حزب الله إثر انتهاء حرب تموز في العام 2006، وبعده في العام 2012 بمهرجان نجاح مشروع إعمار الضاحية الجنوبية لبيروت. 

لكن زياد عاد وقرّر أن يكون على الحياد، لا سيما تجاه الثورة السورية، واستبدل الموقف المعارض والمنتقد بآخر أكثر لطافة بالوقوف على الحياد الإيجابي، كما قال في مقابلة تلفزيونية له تعود الى العام 2022. 

يختصر زياد بشخصيته المثيرة جدلية المسرح والفن المتمرّد، ومدى اليأس من عدم القدرة على التغيير في أوطان مهزومة ومكسورة من الداخل، وشعوب مقهورة تعيش يومياتها كفرض واجب وعلى أملٍ غالبًا ما يموت قبل أن يولد.

الفنان إنسان

الفنان هو إنسان قبل أن يكتشف الرسالة التي سيؤديها في هذا العالم. وهكذا زياد، حلَمَ وشاكَسَ وأبدع وقاوم على طريقته وفضح الكثير من الأكاذيب، لكنه بقي إنسانًا ينهزم أحيانًا ويُحبَط من بلاد لم تغيّرها ولم تعلّمها الحروب والدماء والاحتلالات والمآسي.

بقي زياد الإنسان الذي أحبّ على طريقته، وكانت له فلسفته للحب وللأولاد والعائلة. لم يكن ملحدًا بيساريته، واعترف "أنا مش كافر"، فالفن بحد ذاته فعل إيمان وصلاة.

"الإنسان ما بِموت إلا ما تجي ساعتو

أية ساعة تقريبًا؟

في ساعتو بينو وبين ربو الواحد

بس الواحد بيتكل عالله وبيمشي".

غادر زياد في الساعة المكتوبة، لكنه، ومن عالمه الجديد، ربما كان يخاطبنا الآن: "إنتو حكوني وأنا بسمعكن.

حتى لولا الصوت بعيد".

انضم إلى قناتنا على يوتيوب مجاناً اضغط هنا


المصدر : رصد ايكو وطن